سم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام، على قائد الغر المحجلين، نبينا محمد، وآله، وصحبه، ومن تبعه إلى يوم الدين، أما بعد:
قال البخاري رحمه الله ـ3849ـ: باب القسامة في الجاهلية
حدثنا نعيم بن حماد حدثنا هشيم عن حصين عن عمرو بن ميمون قال: رأيت في الجاهلية قردة اجتمع عليها قردة قد زنت فرجموها فرجمتها معهم.
قال ابن حجر 7/156 : .. ثبت عند أكثر الرواة عن الفربري هنا ترجمة "القسامة في الجاهلية" ولم يقع عند النسفي، وهو أوجه، لأن الجميع من ترجمة أيام الجاهلية، ويظهر ذلك من الأحاديث التي أوردها تلو هذا الحديث.
وتبعه القسطلاني 6/179.
وقال العلامة بد العيني 16/299 : مطابقته للترجمة ظاهرة ! اهـ.
قلت: إنما تكون ظاهرة لو لم يترجم عليها "القسامة في الجاهلية"، واعتمد ترجمة الباب الذي قبله وهو " أيام الجاهلية" فحينئذ تكون ظاهرة، ويظهر أن العيني تجاهل هذه الترجمة يدل عليه شرحه لمناسبة الحديثين الذي قبله.
وأما الكرماني فأورد الترجمة في شرحه، ولم يتكلم على المناسبة بين الترجمة والأثر. 15/75.
وأما الخطابي في الأعلام فلم يتعرض للأثر ، وكذلك ابن المنير في المتواري.
أما شرح الحديث فقد قال ابن حجر 7/160 :
قوله رأيت في الجاهلية قردة بكسر القاف وسكون الراء واحدة القرود وقوله اجتمع عليها قردة بفتح الراء جمع قرد وقد ساق الإسماعيلي هذه القصة من وجه آخر مطولة من طريق عيسى بن حطان عن عمرو بن ميمون قال: كنت في اليمن في غنم لأهلي وأنا على شرف فجاء قرد مع قردة فتوسد يدها فجاء قرد أصغر منه فغمزها فسلت يدها من تحت رأس القرد الأول سلا رقيقا وتبعته فوقع عليها وأنا أنظر ثم رجعت فجعلت تدخل يدها تحت خد الأول برفق فاستيقظ فزعا فشمها فصاح فاجتمعت القرود فجعل يصيح ويومئ إليها بيده فذهب القرود يمنة ويسرة فجاءوا بذلك القرد أعرفه فحفروا لهما حفرة فرجموهما فلقد رأيت الرجم في غير بني آدم.
قال بن التين: لعل هؤلاء كانوا من نسل الذين مسخوا فبقي فيهم ذلك الحكم ثم قال إن الممسوخ لا ينسل قلت وهذا هو المعتمد لما ثبت في صحيح مسلم أن الممسوخ لا نسل له، وعنده من حديث بن مسعود مرفوعا" إن الله لم يهلك قوما فيجعل لهم نسلا".
وقد ذهب أبو إسحاق الزجاج وأبو بكر بن العربي: إلى أن الموجود من القردة من نسل الممسوخ وهو مذهب شاذ اعتمد من ذهب إليه على ما ثبت أيضا في صحيح مسلم" أن النبي لما أتي بالضب قال لعله من القرون التي مسخت" وقال صلى الله عليه وسلم في الفأر فقدت أمة من بني إسرائيل لا أراها إلا الفأر".
وأجاب الجمهور عن ذلك بأنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك: قبل أن يوحى إليه بحقيقة الأمر في ذلك، ولذلك لم يأت الجزم عنه بشيء من ذلك بخلاف النفي فإنه جزم به، كما في حديث بن مسعود، ولكن لا يلزم أن تكون القرود المذكورة من النسل، فيحتمل أن يكون الذين مسخوا لما صاروا على هيئة القردة مع بقاء أفهامهم عاشرتهم القردة الأصلية للمشابهة في الشكل فتلقوا عنهم بعض ما شاهدوه من أفعالهم فحفظوها وصارت فيهم، واختص القرد بذلك لما فيه من الفطنة الزائدة على غيره من الحيوان، وقابلية التعليم لكل صناعة مما ليس لأكثر الحيوان، ومن خصاله أنه يضحك ويطرب ويحكي ما يراه وفيه من شدة الغيرة ما يوازي الآدمي ، ولا يتعدى أحدهم إلى غير زوجته فلا يدع في الغالب أن يحملها ما ركب فيها من الغيرة على عقوبة من اعتدى إلى ما لم يختص به من الأنثى، ومن خصائصه أن الأنثى تحمل أولادها كهيئة الآدمية، وربما مشي القرد على رجليه لكن لا يستمر على ذلك، ويتناول الشيء بيده، ويأكل بيده، وله أصابع مفصلة إلى أنامل وأظفار ولشفر عينيه أهداب، وقد استنكر ابن عبد البر قصة عمرو بن ميمون هذه، وقال فيها إضافة الزنا إلى غير مكلف، وإقامة الحد على البهائم، وهذا منكر عند أهل العلم قال: فان كانت الطريق صحيحة فلعل هؤلاء كانوا من الجن لأنهم من جملة المكلفين، وإنما قال ذلك: لأنه تكلم على الطريق التي أخرجها الإسماعيلي حسب.
وأجيب: بأنه لا يلزم من كون صورة الواقعة صورة الزنا والرجم أن يكون ذلك زنا حقيقة ولا حدا وإنما أطلق ذلك عليه لشبهه به فلا يستلزم ذلك إيقاع التكليف على الحيوان، وأغرب الحميدي في الجمع بين الصحيحين فزعم: أن هذا الحديث وقع في بعض نسخ البخاري وأن أبا مسعود وحده ذكره في الأطراف قال: وليس في نسخ البخاري أصلا فلعله من الأحاديث المقحمة في كتاب البخاري، وما قاله مردود فإن الحديث المذكور في معظم الأصول التي وقفنا عليها، وكفي بإيراد أبي ذر الحافظ له عن شيوخه الثلاثة الأئمة المتقنين عن الفربري حجة، وكذا إيراد الإسماعيلي، وأبي نعيم في مستخرجيهما، وأبي مسعود له في أطرافه، نعم سقط من رواية النسفي، وكذا الحديث الذي بعده ولا يلزم من ذلك أن لا يكون في رواية الفربري فإن روايته تزيد على رواية النسفي عدة أحاديث قد نبهت على كثير منها فيما مضى وفيما سيأتي إن شاء الله تعالى وأما تجويزه إن يزاد في صحيح البخاري ما ليس منه فهذا ينافي ما عليه العلماء من الحكم بتصحيح جميع ما أورده البخاري في كتابه ومن اتفاقهم على أنه مقطوع بنسبته إليه وهذا الذي قاله تخيل فاسد يتطرق منه عدم الوثوق بجميع ما في الصحيح لأنه إذا جاز في واحد لا بعينه جاز في كل فرد فرد فلا يبقى لأحد الوثوق بما في الكتاب المذكور واتفاق العلماء ينافي ذلك، والطريق التي أخرجها البخاري دافعة لتضعيف ابن عبد البر للطريق التي أخرجها الإسماعيلي.
وقد أطنبت في هذا الموضع لئلا يغتر ضعيف بكلام الحميدي فيعتمده، وهو ظاهر الفساد.
وقد ذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب الخيل له من طريق الأوزاعي أن مهرا أنزي على أمه فامتنع فأدخلت في بيت وجللت بكساء وأنزي عليها فنزى فلما شم ريح أمه عمد إلى ذكره فقطعه باسنانه من أصله، فإذا كان هذا الفهم في الخيل مع كونها أبعد في الفطنة من القرد فجوازها في القرد أولى. اهـ
وراجع اعتراضات العيني في عمدة القاري على كلام ابن حجر 16/300.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وسلم.
قال العيني في عمدة القاري ج:16 ص:299 -300
9483 ـ حدَّثنا ( نُعَيْمُ بنُ حَمَّاد ) ٍ حدَّثنا ( هُشَيْم ) ٌ عنْ ( حُصَيْن ) ٍ عنْ ( عَمْرِو بنِ مَيْمُون ) ٍ قال رأيْتُ في الجاهِلِيَّةِ قِرْدَةً اجْتَمَعَ عَلَيْهَا قِرَدَةٌ قَدْ زَنَتْ فرَجَمُوهَا فرَجَمْتُهَا مَعَهُمْ
مطابقته للترجمة ظاهرة ونعيم بضم النون ابن حماد بتشديد الميم أبو عبد الله الرفاء الفارض المروزي سكن مصر قال أبو داود مات سنة ثمان وعشرين ومائتين وهشيم بضم الهاء ابن بشير بضم الباء الموحدة وفتح الشين المعجمة السلمي الواسطي وحصين بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين عبد الرحمن السلمي أبو الهذيل الكوفي وعمرو بفتح العين ابن ميمون قد مر عن قريب
قوله قردة بكسر القاف وسكون الراء وهي الحيوان المشهور وتجمع على قرود وقردة أيضاً بكسر القاف وفتح الراءكما في متن الحديث
قوله قد زنت حال من قردة المفردة فإن قلت كيف ذكر
قوله اجتمع مع أن فاعله جماعة وهو قوله قردة وكذلك ذكر الضمير المرفوع في رجموها وفي قوله معهم قلت أما الأول فلوقوع الفصل بين الفعل والفاعل وأما الثاني فباعتبار أن الراوي كان بين القردة فغلب المذكر على المؤنث
وأصل هذه القصة ما ذكرها الإسماعيلي مشروحة من طريق عيسى بن حطان عن عمرو بن ميمون قال كنت في اليمن في غنمٍ لأهلي وأنا على شرف فجاء قرد مع قردة فتوسد يدها فجاء قرد أصغر منه فغمزها فسلت يدها من تحت رأس القرد الأول سلاًّ رَفيقاً وتبعته فوقع عليها وأنا أنظر ثم رجعت فجعلت تدخل يدها من تحت خد الأول برفق فاستيقظ فزعاً فشمها فصاح فاجتمعت القرود فجعل يصيخ ويومي إليها بيده فذهب القرود يمنة ويسرة فجاءوا بذلك القرد أعرفه فحفروا لهما حفرة فرجموهما فلقد رأيت الرجم في غير بني آدم
وقال ابن التين لعل هؤلاء كانوا من نسل الذين مسخوا فبقي فيهم ذلك الحكم
وقال ابن عبد البر إضافة الزنا إلى غير المكلف وإقامة الحدود في البهائم عند جماعة أهل العلم منكر ولو صح لكانوا من الجن لأن العبادات في الجن والإنس دون غيرهما
وقال الكرماني يحتمل أن يقال كانوا من الإنس فمسخوا قردة وتغيروا عن الصورة الإنسانية فقط وكان صورته صورة الزنا والرجم ولم يكن ثمة تكليف ولا حدّ وإنما ظنه الذي ظن في الجاهلية مع أن هذه الحكاية لم توجد في بعض نسخ البخاري
وقال الحميدي في (الجمع بين الصحيحين) هذا الحديث وقع في بضع نسخ البخاري وأن أبا مسعود وحده ذكره في (الأطراف) قال وليس هذا في نسخ البخاري أصلاً فلعله من الأحاديث المقحمة في كتاب البخاري
وقال بعضهم في الرد على ابن التين بأنه ثبت في (صحيح مسلم) أن الممسوخ لا نسل له ويعكر عليه بما ثبت أيضاً في صحيح مسلم أن النبي لما أوتي بالضب قال لعله من القرون التي مسخت وقال في الفأر فقدت أمة من بني إسرائيل لا أراها إلاَّ الفار وإليه ذهب أبو إسحاق الزجاج وأبو بكر بن العربي حيث قالا إن الموجود من القردة من نسل الممسوخ وأجيب بأنه قال ذلك قبل الوحي إليه يحقيقة الأمر في ذلك وفيه نظر لعدم الدليل عليه وقال في الرد على ابن عبد البر بأنه لا يلزم من كون صورة الواقعة صورة الزنا والرجم يكون ذلك زناً حقيقة ولا حداً وإنما أطلق ذلك عليه لشبهه به فلا يستلزم ذلك إيقاع التكليف على الحيوان
وأجيب عنه بالجواب الأول من جوابي الكرماني في ذلك وقال في الرد على الحميدي بقوله وما قاله الحميدي مردود فإن الحديث المذكور في معظم الأصول التي وقفنا عليها
ورد عليه بأن وقوف الحميدي على الأصول أكثر وأصح من وقوف هذا المعترض لأنه جمع بين (الصحيحين) ومثله أدرى بحالهما ولو كان في أصل البخاري هذا الحديث لم يجزم بنفيه عن الأصول قطعاً وجزماً على أنه غير موجود في رواية النسفي
وقال هذا القائل أيضاً وتجويز الحميدي أن يزاد في (صحيح البخاري) ما ليس منه ينافي ما عليه العلماء من الحكم بتصحيح جميع ما أورده البخاري في كتابه ومن اتفاقهم على أنه مقطوع بنسبته إليه
قلت فيه نظر لأن منهم من تعرض إلى بعض رجاله بعدم الوثوق وبكونه من أهل الأهواء ودعوى الحكم بتصحيح جميع ما أورده البخاري فيه غير موجهة لأن دعوى الكلية تحتاج إلى دليل قاطع
ويرد ما قاله أيضاً بأن النسفي لم يذكر هذا الحديث فيه) انتهى
وذكر محمد أنور الكشميري في فيض الباري شرح صحيح البخاري(4/76)
( حدثنا نعيم بن حماد - واعلم أنهم قالوا إن نعيم بن حماد من رجال تعليقات البخاري ، لا من مسانيده ، ويرده هذا الاسناد ، فإنه وقع هاهنا في المسند غيضا ، على أن الحاكم صرح في مستدركه في كتاب الجنائز أن البخاري احتج بنعيم بن حماد ، فطاح ما احتالوا بكونهه من رجال التعليقات ، وقد تكلمنا في نعيم بن حماد هذا
ثم إن ابن الجوزي أدخل هذا الحديث في الموضوعات ، وكذا حديثين من صحيح مسلم ، وقد صرح أصحاب الطبقات أن ابن الجوزي راكب على مطايا العجلة ، فيكثر الأغلاط ، ورأيت فيه مصيبة أخرى ، وهي أنه يرد الأحاديث الصحيحة كلما خالفت عقله وفكره ، كحديث الباب ، فإنه لم يعقل كيف ترجم القردة القردة الزانية ، فإنه من ديدن الإنسان دون الحيوان ، قلت وهذا مهمل ، وقد ثبت اليوم فيها أفعال تدل على ذكاوتهم ، وقصصها شهيرة يتعجب منها كل ذي أذنين ، وقد دون اليوم أهل أمريكا ، لسانها أيضا ، فما الاستبعاد في الرجم ، فإن الله تعالى لو كان خلق فيها شعورا لذلك لم يمنعه ، وصرح السيوطي في اللآلي المصنوعة أن ابن الجوزي غال في الحكم بالوضع حتى اشتهر في شدته ، كما اشتهر الحاكم بالتساهل في التصحيح ، ومن هاهنا لا يعبأ المحدثون بجرح ابن الجوزي ، وتصحيح الحاكم ، إلا ما ثبت عندهم) انتهى.
وقد بحثت كثيرا عن هذا الحديث في الموضوعات لابن الجوزي فلم أجده
ولم يذكر هذا ابن حجر ولا غيره
فالظاهر أن هذا وهم من الكشميري
والله أعلم.
قال ابن عبدالبر في الاستيعاب ج: 3 ص: 1205
عمرو بن ميمون الأودى أبو عبد الله أدرك النبى صلى الله عليه وسلم وصدق إليه وكان مسلما فى حياته وعلى عهده صلى الله عليه وسلم قال عمرو بن ميمون قدم علينا معاذ الشام فلزمته فما فارقته حتى دفنته ثم صحبت ابن مسعود وهو معدود فى كبار التابعين من الكوفيين وهو الذى رأى الرجم فى الجاهلية من القردة إن صح ذلك لأن رواته مجهولون
وقد ذكر البخارى عن نعيم عن هشيم عن حصين عن عمرو بن ميمون الأودى مختصرا قال رأيت فى الجاهلية قردة زنت فرجموها يعنى القردة فرجمتها معهم
ورواه عباد بن العوام عن حصين كما رواه هشيم مختصرا وأما القصة بطولها فإنها تدور على عبد الملك بن مسلم عن عيسى ابن حطان وليسا ممن يحتج بهما
وهذا عند جماعة أهل العلم منكر إضافة الزنا إلى غير مكلف وإقامة الحدود فى البهائم
ولو صح لكانوا من الجن لأن العبادات فى الجن والإنس دون غيرهما وقد كان الرجم فى التوراة
وروى أن عمرو بن ميمون حج ستين ما بين حج وعمرة ومات سنة خمس وسبعين
قال الإمام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (1/442)
قال ابن العربي: وفي البخاري عن عمرو بن مَيْمُون أنه قال: «رأيت في الجاهلية قِردة قد زَنَت فرجموها فرجمتها معهم» ثبت في بعض نسخ البخاري وسقط في بعضها، وثبت في نص الحديث «قد زنت» وسقط هذا اللفظ عند بعضهم. قال ابن العربي: فإن قيل: وكأن البهائم بقيت فيهم معارف الشرائع حتى ورثوها خَلفاً عن سلف إلى زمان عمرو؟ قلنا: نعم كذلك كان؛ لأن اليهود غيّروا الرجم فأراد الله أن يقيمه في مُسُوخهم حتى يكون أبلغ في الحجة على ما أنكروه من ذلك وغيّروه، حتى تشهد عليهم كتبهم وأحبارهم ومسوخهم، حتى يعلموا أن الله يعلم ما يُسِرّون وما يُعلنون، ويُحصي ما يُبدّلون وما يغيّرون، ويُقيم عليهم الحجة من حيث لا يشعرون، وينصر نبيّه عليه السلام وهم لا يُنصرون.
قلت: هذا كلامه في الأحكام، ولا حجة في شيء منه.
وأمّا ما ذكره من قصة عمرو فذكر الحميدي في جمع الصحيحين: حكى أبو مسعود الدمشقي أن لعمرو بن ميمون الأَوْديّ في الصحيحين حكايةً من رواية حُصين عنه قال: رأيت في الجاهلية قردة اجتمع عليها قردة فرجموها فرجمتها معهم.
كذا حكى أبو مسعود ولم يذكر في أي موضع أخرجه البخاريّ من كتابه؛ فبحثنا عن ذلك فوجدناه في بعض النسخ لا في كلها؛ فذكر في كتاب أيام الجاهلية.
وليس في رواية النعيميّ عن الفَرَبْرِيّ أصلاً شيء من هذا الخبر في القِردة؛ ولعلها من المُقْحَمات في كتاب البخاري.
والذي قال البخاريّ في التاريخ الكبير: قال لي نُعيم بن حمّاد أخبرنا هُشَيم عن أبي بَلْج وحُصين عن عمرو بن مَيمون قال: رأيت في الجاهلية قِردة اجتمع عليها قرود فرجموها فرجمتها معهم.
وليس فيه «قد زنت».
فإن صحت هذه الرواية فإنما أخرجها البخاريّ دلالة على أن عمرو بن ميمون قد أدرك الجاهلية ولم يُبال بظنّه الذي ظنّه في الجاهلية.
وذكر أبو عمر في الاستيعاب عمرو بن ميمون وأن كنيته أبو عبد اللَّه «معدود في كبار التابعين من الكوفيين، وهو الذي رأى الرجم في الجاهلية من القردة إن صح ذلك؛ لأنّ رواته مجهولون.
وقد ذكره البخاريّ عن نُعيم عن هُشَيم عن حُصين عن عمرو بن ميمون الأَوْدِيّ مختصراً قال: رأيت في الجاهلية قردة زنت فرجموها ـ يعني القردة ـ فرجمتها معهم. ورواه عباد بن العوّام عن حُصين كما رواه هُشيم مختصراً.
وأما القصة بطولها فإنها تدور على عبد الملك بن مسلم عن عيسى بن حِطّان؛ وليسا ممن يُحتّج بهما.
وهذا عند جماعة أهل العلم منكر إضافة الزنى إلى غير مكلَّف، وإقامة الحدود في البهائم. ولو صح لكانوا من الجن؛ لأن العبادات في الإنس والجن دون
قال الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق 46 / 415 -416 :
أخبرنا أبو الحسين بن قيس أنا أبو الحسين بن أبي الحديد أنا جدي أبو بكر أنا أبو بكر الخرائطي أنا سعد بن يزيد البزار نا علي بن عاصم نا حصين بن عبدالرحمن عن عمرو بن ميمون الأودي قال:" رأيت قردة باليمن فرجمتها القردة فرجمتها معهم ".
قال علي بن عاصم لو غير حصين حدثني ما صدقت.
رواه البخاري في صحيحه عن نعيم بن حماد عن هشيم عن حصين.
أخبرنا أبو الفتح يوسف بن عبدالواحد أنا شجاع بن علي أنا أبو عبدالله بن مندة أنا خيثمة نا الحسن بن مكرم نا شبابة بن سوار نا عبدالملك بن مسلم نا عيسى بن حطان قال: دخلت مسجد الكوفة فإذا عمرو بن ميمون الأودي جالس ، وعنده ناس فقال: له رجل حدثنا بأعجب شيء رأيته في الجاهلية ، قال: كنت في حرث لأهلي باليمن فرأيت قرودا كثيرة قد اجتمعن ، قال: فرأيت قردا وقردة اضطجعا ثم أدخلت القردة يدها تحت عنق القرد ، واعتنقها ثم ناما فجاء قرد فغمزها من تحت رأسها فنظرت إليه فأسلت يدها من تحت رأس القرد ثم انطلقت معه غير بعيد فنكحها وأنا أنظر ، ثم رجعت إلى مضجعها فذهبت تدخل يدها تحت عنق القرد كما كانت فانتبه القرد فقام إليها فشم دبرها فاجتمعت القردة فجعل يشير إليه وإليها فتفرقت القردة فلم ألبث أن جيء بذلك القرد بعينه أعرفه فانطلقوا بها وبالقرد إلى موضع كثير الرمل فحفروا لهما حفيرة فجعلوهما فيها ثم رجموهما حتى قتلوهما والله لقد رأيت الرجم قبل أن يبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم.
قال ابن مندة: هذا حديث غريب تفرد به شبابة عن أبي سلام عبدالملك بن مسلم
أخبرناه أبو المظفر القشيري أنا أبو عثمان البحيري أنا أبو الحسين محمد بن عبدالله المخلدي الهروي أنا أبو محمد عبدالله بن بشر البكري نا سعيد بن يعقوب الطالقاني نا عبدالله بن أبي جعفر الرازي نا أبو سلام عن عيسى بن حطان عن عمرو بن ميمون الأودي قال: قيل له: أخبرنا بأعجب شيء رأيته في الجاهلية قال: رأيت الرجم في غير ابن آدم إن أهلي أرسلوني في نخل لهم أحفظها من القرود فبينا أنا يوما في البستان إذ جاء القرود فصعدت نخلة فتفرقت القرود فاضطجعوا فجاء قرد وقردة فاضطجعا فأدخلت القردة يدها تحت القرد فاستثقلا نوما فجاء قرد فغمز القردة فسلت يدها من تحت القرد فذهبت معه فأصاب منها القرد ثم رجعت القردة إلى القرد فذهبت تدخل يدها في المكان الذي كانت فيه فانتبه القرد فقام فشرم دبرها فصاح صيحة فاجتمعت القردة فقام واحد منهم كهيئة الخطيب فوجهوا في طلب القرد فجاءوا به بعينه وأنا أعرفه فحفروا لهما فرجموهما.
وانظر: تهذيب الكمال 22/256 وسير أعلام النبلاء 4/159
قال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث ص 255-257 :
قالوا: رويتم أن قرودا رجمت قردة في زنا فإن كانت القرود إنما رجمتها في الإحصان فذلك أظرف للحديث ، وعلى هذا القياس فإنكم لا تدرون لعل القرود تقيم من أحكام التوراة أمورا كثيرة !
ولعل دينها اليهودية بعد !
وإن كانت القرود يهودا فلعل الخنازير نصارى !
قال أبو محمد: ونحن نقول في جواب هذا الاستهزاء إن حديث القرود ليس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أصحابه وإنما هو شيء ذكر عن عمرو بن ميمون.
حدثني محمد بن خالد بن خداش قال نا مسلم بن قتيبة عن هشيم عن حصين عن عمرو بن ميمون قال: "زنت قردة في الجاهلية فرجمتها القرود ورجمتها معهم" .
قال أبو محمد: وقد يمكن أن يكون رأي القرود ترجم قردة فظن أنها ترجمها لأنها زنت ، وهذا لا يعلمه أحد إلا ظنا لأن القرود لا تنبئ عن أنفسها ، والذي يراها تتسافد لا يعلم أزنت أم لم تزن هذا ظن ، ولعل الشيخ عرف أنها زنت بوجه من الدلائل لا نعلمه (1) فإن القرود أزنى البهائم ، والعرب تضرب بها المثل فتقول أزنى من قرد ، ولولا أن الزنا منه معروف ما ضربت به المثل ، وليس شيء أشبه بالإنسان في الزواج ، والغيرة منه ، والبهائم قد تتعادى ويثب بعضها على بعض ، ويعاقب بعضها بعضا فمنها ما يعض ، ومنها ما يخدش ، ومنها ما يكسر ويحطم ، والقرود ترجم بالأكف التي جعلها الله لها كما يرجم الإنسان ، فإن كان إنما رجم بعضها بعضا لغير زنا فتوهمه الشيخ لزنا فليس هذا ببعيد ، وإن كان الشيخ استدل على الزنا منها بدليل وعلى أن الرجم كان من أجله فليس ذلك أيضا ببعيد (1) لأنها على ما أعلمتك أشد البهائم غيرة وأقربها من بني آدم أفهاما.
قال أبو محمد: وأنا أظن أنها الممسوخ بأعيانها توالدت واستدللت على ذلك بقول الله عز وجل (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير)
فدخول الألف واللام في القردة والخنازير يدل على المعرفة ، وعلى أنها هي القردة التي نعاين ، ولو كان أراد شيئا انقرض ، ومضى لقال: وجعل منهم قردة وخنازير إلا أن يصح حديث أم حبيبة في الممسوخ (2) فيكون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ، ولسنا نقول: إنها فعلت ذلك لأنها علمت بحكم التوراة كما يقول المستهزئ ، ولكنا نقول: إنها عاقبت بالرجم إما على الزنا ، أو على غير ذلك من أجل أكفها كما يخدش غيرها ، ويعض ويكسر إذا كانت أكفها كأكف بني آدم ، وكان بن آدم لا ينال ما يريد أذاه إذا بعد عنه إلا بالرجم ، ومما يزيد في الدلالة على أن القرود هي الممسوخ بأعيانها إجماع الناس على تحريمها بغير كتاب ، ولا أثر كما أجمعوا على تحريم لحوم الناس بغير كتاب ولا أثر .
========================
(1) تقدم سياق القصة بتفاصيلها عند الإسماعيلي ، وابن عساكر ، وغيرهم .
(2) في مسلم (2663) عن معرور بن سويد عن عبد الله بن مسعود قال: قالت أم حبيبة: اللهم متعني بزوجي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنك سألت الله لآجال مضروبة وآثار موطوءة وأرزاق مقسومة لا يعجل شيئا منها قبل حله ولا يؤخر منها شيئا بعد حله ولو سألت الله أن يعافيك من عذاب في النار وعذاب في القبر لكان خيرا لك" قال: فقال رجل: يا رسول الله القردة والخنازير هي مما مسخ ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" إن الله عز وجل لم يهلك قوما أو يعذب قوما فيجعل لهم نسلا وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك.
هناك طريق عن حصين غير طريق هشيم رواها أبو نعيم في معرفة الصحابة قال حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن ثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ثنا أبي ثنا عباد بن العوام عن حصين قال سمعت عمرو بن ميمون يقول "زنت قردة في اليمن فرجمتها القردة ورجمتها معهم"
ولقد أشار ابن عبد البر -كما ذكر في ثنايا الكلام- إلى رواية عباد هذه فذكرتها للفائدة
ثم روى القصة بتمامها من طريق آخر عن شبابة بن سوار بمثل رواية ابن عساكر أعلاه
وطريق علي بن عاصم عن حصين التي رواها ابن عساكر من طريق الخرائطي رواها الخرائطي في مساوئ الأخلاق وعندي قال "زنت قردة" بدلا من "رأيت قردة"
قال ابن الأثير الجزري عقب ذكر القصة في ترجمة عمرو بن ميمون "وهذا مما أدخل في صحيح البخاري"